السؤال:
ما معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
إن الدين يسرٌ، ولن يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغَدْوةِ والرَّوْحَةِ، وشيءٍ من الدُلْجَةِ ؟
و ما المقصود بـ :" لا يشاد الدين احد غلا غلبه "؟ الجواب:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "
إن الدين يسرٌ، ولن يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغَدْوةِ والرَّوْحَةِ، وشيءٍ من الدُلْجَةِ ".
وفي روايةٍ: "
لن يُنجي أحداً منكم عملُه، قالوا: ولا أنت يا رسولَ الله؟ قال: ولا أنا، إلا أنْ يَتَغمَّدني اللهُ برحمة، سددوا، وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيءٌ من الدلجة والقصدَ القصدَ تبلغوا ".
بيان غريب الحديث:
يُشاد: المُشادة والمشاددة: المغالبةُ، وشادَّه مُشادَّة وشِداداً: غالبه.
والمشادةُ في الشيء: التشدد فيه.
والمعنى في الحديث مغالبة هذا الدين بتكليف النفس من العبادة فوق الطاقة[1].
سَدِّدُوا: أي
اطلُبوا بأعمالكم السَّداد و الاستقامةَ، وهو القَصْد في الأمر والعَدْلُ فيه[2].
قارِبُوا: أي
اقْتَصِدوا في الأمور كلها واتْرُكوا الغُلُوَّ فيها والتَّقْصير يقال قارَب فُلانٌ في أموره إذا اقْتَصد[3].
الغَدْوةُ: بفتح الغين المعجمة اسم مرةٍ،
من الغدو وهو سير أول النهار.
الرَّوْحَةُ:
سير آخر النهار وهي عكس الغَدْوة.
الدُّلْجَةُ :
سير الليلوقيل: والدُّلْجَةُ:
سَيْرُ السَّحَرِوالدَّلْجَةُ:
سَيْرُ الليل كلِّه.
والدَّلَجُ، والدَّلَجانُ والدَّلَجَة:
الساعة من آخر الليل، والفعل الإِدْلاجُ.
و أَدْلَجُوا:
ساروا من آخر الليل. او ساروا الليل كله.
وأنشدوا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله:
اِصْبِرْ على السَّيْرِ والإِدْلاجِ في السحَرِ وفي الرَّواحِ على الحاجاتِ والبُكَرِ فجعل الإِدلاج في السحر[4].
القَصْدَ: أي
عليكم بالقَصْد من الأمور في القَول والفعل وهو الوَسَط بين الطَّرَفَين، وهو منصوبٌ على المصدر المؤكِّد، وتكْرارُه للتأكيد[5].
وقد تضمن هذا الحديث جملةً عظيمة من الفوائد، وإليك ذكر بعضها في هذه الوقفات:
الأولى:
أنَّ الدين كله مبناه على اليُسر.
اليسر: ضِدّ العُسْرِ، والمعنى
أنَّ الدين سَهْلٌ سَمْحٌ قَلِيلُ التَّشْدِيد[6].
دين الإسلام مبناه على اليُسر ونفي الحرج والعسر، وهذا أصل أصيل في دين الله، وقد دلت عليه نصوص كثيرة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
من ذلك: قوله تعالى: {
يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]،
وقوله تعالى: {
مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ...} [المائدة: 6].
ومن السنة: حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن جبل قال لهما: "
يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا"[7].
وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
يسروا ولا تعسروا، وسَكِنُوا ولا تنفروا "[8].
فالحرج والمشقة منفيان عن أحكام الشرع المطهر، فليس في أحكام هذا الدين حكمٌ لا يُطاق فعله، ولا يُستطاع امتثاله. ومن القواعد الكبرى في الفقه الإسلامي قاعدة: "
المشقة تجلب التيسير".
والمشقة نوعان:
•
مشقة معتادة، تكون وصفاً لازماً لأي نوع من التكاليف الشرعية، وغير الشرعية، فهذه المشقة غير مؤثرةٍ في الحكم، وامتثال الأمر ممكن معها.
•
مشقة تعود بالضرر على العامل في نفسه، أو ولده، أو ماله، فهذه مشقةٌ منفيةٌ عن دين الإسلام[9].
المسألة الثانية: في
التحذير من الغلو:
فإنَّ مشادة الدين هي في تكليف النفس من العبادة ما لا تطيق، وهذا هو معنى الغلو، فتجاوز الحدود الشرعية التي حدَّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، هو مغالبةٌٍ لها.
و
معنى
غلبة الدين له: أ
نَّ الغالي في دينه مآل غلوه إلى تقصير أوترك للعمل بالكلية؛ فإذا حصل ذلك صار الدين غالباً له.
والغلو شرٌ كله، وهو مذموم في كل عمل، ومن كل أحد، وقد كان سبب هلاك الأمم قبلنا، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" [10].
والغلو خروج عن حد الاعتدال -الذي يستطيع الإنسان الثبات عليه-؛ فإن الغالي لا تثبت قدمه على سبيل الطاعة ثبوتاً دائماً. بل عمله شِرَّةٌ سرعان ما تعود إلى فَتْرةٍ، وأحب العمل إلى الله ما ثبت عليه صاحبه.
عن عائشة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "
يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تُطِيقون، فإنَّ اللهَ لا يمل حتى تَملُّوا، وإن أحبَ الأعمالِ إلى الله ما دُووم عليه وإنْ قل، وكان آل محمد صلى الله عليه وسلم إذا عملوا عملا أثبتوه" [11].
والغالي قاصر النظر على ما انبعثت همته إليه، وحبس نفسه عليه، ولا بد لمن هذا حاله أن يلحقه من النقص في جوانب أخرى سواء في عبادته أوسلوكه أو سائر عمله، وسرِّح طرفك في حال من ابتلي بشيءٍ من ذلك لترى ثمرات الغلو النكدة تنطق بذلك.
والمقصود:
أنَّ الغالي في دينه سلك السبيل الأشد والأشق، وخالف هدي من إذا خُيِّر بين أمرين اختار أيسرهما صلى الله عليه وسلم. المسألة الثالثة: في
بيان فضيلة الاستقامة والتوسط:
تقدَّم أنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: "
سددوا" أي اطلبوا السداد والاستقامة بأعمالكم.، وقوله صلى الله عليه وسلم: "
قاربوا" أي اقتصدوا في الأمور كلها.
والمعنى الزموا التوسط في الاستقامة على طاعة الله، لأنَّه لا سبيل إلى الثبات على الاستقامة إلا بسلوك المنهج الوسط الذي لا غلو فيه وجفاء، وهو ما تألفه النفوس، وتستطيعه الأبدان. وقد أكَّد النبي - صلى الله عليه وسلم - لزومَ التوسُّط في الرواية الأخرى بقوله: ((
والقصدَ القصدَ تبلغوا)).
وتأمل وجه الترابط بين لزوم القصد وهو التوسط والاعتدال، وبين بلوغ القصد، وهو دخول الجنة، ليظهر لك أنَّه ليس ثمةَ سبيلٌ لبلوغ المقصد إلا بلزوم القصد.
فليس فمعنى: ((سددوا وقاربوا)): الإتيان بالأحكام الشرعية على وجه الترقيع والتهاون؛ بل هو التزامٌ واستقامةٌ على منهج التوسط والاعتدال. المسألة الرابعة:
وجوب تعلق القلب بالله، وحسن التوكل عليه:
فإن قوله - صلى الله عليه وسلم: ((
لن يُنجي أحداً منكم عملُه))
يُوجِبُ ألاَّ يتَّكِل الإنسان على عمله المجرد؛ لأنَّه لا يدخل الجنة به، وإنما برحمة أرحم الراحمين، وهذا يستوجب بذل الجهد في إصلاح العمل مع صدق اللجأ إلى الله في قبول العمل؛ لأنَّ قبول العمل إنما يحصل برحمة الله لمن يقبل منه، وهذا وجهٌ من أوجه التوفيق بين هذا الحديث وقوله تعالى: {
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [سورة النحل: 32][12].
وفي الحديث:
إشارةٌ إلى أنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أعلم الخلق بالله، وأتقى الخلق لله، وأشد الخلق خشية من الله، وأعظم الخلق عبادةً لله لن يُنجيه عمله، فإن غيره من باب أولى.
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم: ((
أبشروا))
بعد أمره بالسداد والمقاربة، ما يدل على أنَّ التوفيق للأعمال الصالحة بُشرى للمؤمن، تزيده ظناً حسناً بربه تبارك وتعالى.
الخامسة:
التنبيه على أوقات النشاط والحث على استثمارها:
يتبين ذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم: ((
عليكم بالغدوة والروحة))، وقوله: ((
وشيئاً من الدلجة))
فإنَّ فيهما تنبيهاً على أوقات نشاط العامل، وحثاً على استثمارها.
والإنسان في سيره إلى الدار الآخرة كالمسافر الذي يقطع المراحل في سفره، ولما كان سير النهار كله، والليل كله غير ممكن، نبَّهه إلى الأوقات الفاضلة التي يجد السائر فيها عوناً من نفسه على سيره، ويعظم فيها ثوابه.
السادسة:
سماحة الشريعة تقتضي سماحة الملتزمين بها:
إذا كانت أحكام الشريعة مبناه على اليسر والسماحة، فإن الملتزم بها يناله من يسرها وسماحتها بقدر التزامه. وقد ثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: ((
فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين))[13].
وإذا أعرض المرء عن تعاليم الشريعة، حصل له ما ينافي اليُسر والسماحة من الغلو أو الجفاء بقدر إعراضه.
فمتى رأيت جافياً في خلقة، أو غالياً في حبه وبغضه، أو متشدداً في عبادته، أو ضيق العطن بمن يخالفه، فاعلم أنَّ ذلك إنما حصل له بسبب إعراضه عن تعاليم الدين حقيقةً، وإن بقيت عليه بعض الرسوم والمسوح، فإنَّ العبرة بالعمل، وليست بالزي والتصنع.
وانظر برهان ذلك في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، وكان الأمر بالتيسير وصيته إلى رسله إذا بعثهم بتبليغ الدين.
السابعة:
التنبيه على فهم كليل ...لهذا الحديث:
هذا الحديث وما جرى مجراه من النصوص
الدالة على يُسر الشريعة وسماحتها، ربما تعلق بها بعض الباحثين عن متكأٍ يبررون به تفلتهم من قيود الشريعة وأحكامها.
فإذا نظرنا أعشى البصر كليلُ الفهم إلى هذا الحديث، حسبه لفرط جهله دليلاً له على تقصيره في فعل الأوامر، أو ارتكاب المحظورات، فإذا لامه لائمٌ على تقصيره، ساق النصوص الدالة على يسر الشريعة وسماحتها.
فيسر الشريعة حقٌ لا مرية فيه،
وليس دليلاً على يسر التفلت من تكاليفها، والتلاعب بأحكامها، وإنما
هو التزامٌ بأحكامها وتعلقٌ بأهدابها، وعَضٌ عليها بالنواجذ؛ لأنها سمحة يسيرة في أحكامها وتشريعاتها، وسطٌ بين الغلاة والجفاة، فمن تمسك بها فإنَّه على نهج الاعتدل واليُسر والسماحة. فالحمد لله على فضله وهدايته.
هذه بعض الوقفات التي سمح بها الوقت والمكان، ولا يزال في الحديث بقية بحث؛ فإنَّه من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.
اللهم يسر لي كل عسير، فإن تيسر العسير عليك يسير.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] ينظر: لسان العرب (شدد).
[2] النهاية في غريب الحديث والأثر (2/352).
[3] (4/33).
[4] لسان العرب (دلج).
[5] النهاية في غريب الحديث والأثر (4/67).
[6] ينظر النهاية في غريب الحديث (5/294).
[7] أخرجه البخاري (حديث5773).
[8] أخرجه البخاري (حديث5774).
[9] لمزيد اطلاع ينظر كتاب رفع الحرج عن الشريعة للدكتور صالح بن عبد الله بن حميد.
[10] رواه النسائي (حديث3057)، وابن ماجه (حديث3029)، وابن حبان (حديث3871).
[11] رواه البخاري (حديث5523)، ومسلم (حديث782) واللفظ لمسلم.
[12] للمزيد من الأجوبة في التوفيق بين الآية والحديث ينظر فتح الباري (1/95).
[13] أخرجه البخاري (حديث217).............................
اما المقصود من قوله عليه الصلاة والسلام :"
... لا يشاد الدين احد غلا غلبه ..."
كما جاء من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :
(
إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا ، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ )
رواه البخاري (39) ومسلم (2816) قال
الحافظ ابن رجب رحمه الله :
" معنى الحديث :
النهي عن التشديد في الدين ، بأن
يحمِّل الإنسان نفسه من العبادة ما لا يحتمله إلا بكلفة شديدة ، وهذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم : (
لن يشاد الدين أحد إلا غلبه ) يعني : أن الدين لا يؤخذ بالمغالبة ، فمن شاد الدين غلبه وقطعه .
وفي " مسند الإمام أحمد " – (5/32) وحسنه محققو المسند - عن محجن بن الأدرع قال :
(
أقبلت مع النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كنا بباب المسجد إذا رجل يصلي قال : " أتقوله صادقا " ؟ قلت : يا نبي الله هذا فلان ، وهذا من أحسن أهل المدينة أو من أكثر أهل المدينة صلاة ، قال : " لا تسمعه فتهلكه - مرتين أو ثلاث - إنكم أمة أريد بكم اليسر )
وفي رواية له : (
إن خير دينكم أيسره ، إن خير دينكم أيسره )
– " مسند أحمد " (3/479) وحسنه المحققون -. وقد جاء في رواية
عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا :
(
إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ، ولا تُبَغِّض إلى نفسك عبادة الله ؛ فإن المُنْبَتَّ لا سفرا قطع ، ولا ظهرا أبقى ) – "
السنن الكبرى " البيهقي (3/19) وضعفه الألباني في " السلسلة الضعيفة " (1/64) -والمُنْبَتُّ :
هو المنقطع في سفره قبل وصوله ، فلا سفرا قطع ، ولا ظهره الذي يسير عليه أبقى حتى يمكنه السير عليه بعد ذلك ؛ بل هو كالمنقطع في المفاوز ، فهو إلى الهلاك أقرب ، ولو أنه رفق براحلته واقتصد في سيره عليها لقطعت به سفره وبلغ إلى المنزل "
انتهى باختصار. " فتح الباري " لابن رجب (1/136-139) وقال
الحافظ ابن حجر رحمه الله :
"
والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب .
قال ابن المنير : في هذا الحديث علم من أعلام النبوة ، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع .
وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة ، فإنه من الأمور المحمودة ، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال ، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل ، أو إخراج الفرض عن وقته ، كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة ، أو إلى أن خرج الوقت المختار ، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة "
انتهى. " فتح الباري " لابن حجر (1/94) ويقول العلامة
عبد الرحمن السعدي رحمه الله :
"
ما أعظم هذا الحديث وأجمعه للخير والوصايا النافعة والأصول الجامعة ، فقد أسّس صلّى الله عليه وسلم في أوله هذا الأصل الكبير ، فقال: ( إن الدين يسر ) أي : ميسر مسهل في عقائده وأخلاقه وأعماله ، وفي أفعاله وتُروكه :
فإن عقائده التي ترجع إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقَدَر خيره وشره : هي العقائد الصحيحة التي تطمئن لها القلوب ، وتوصِّل مقتديها إلى أجلِّ غاية وأفضل مطلوب .
وأخلاقه وأعماله أكمل الأخلاق وأصلح الأعمال ، بها صلاح الدين والدنيا والآخرة ، وبفواتها يفوت الصلاح كله ، وهي كلها ميسرة مسهلة ، كل مكلف يرى نفسه قادراً عليها لا تشق عليه ولا تكلفه .
عقائده صحيحة بسيطة ، تقبلها العقول السليمة ، والفطر المستقيمة .
وفرائضه أسهل شيء :
أما الصلوات الخمس :
فإنها تتكرر كل يوم وليلة خمس مرات في أوقات مناسبة لها ، وتمم اللطيف الخبير سهولتها بإيجاب الجماعة والاجتماع لها ؛ فإن الاجتماع في العبادات من المنشطات والمسهلات لها ، ورتب عليها من خير الدين وصلاح الإيمان وثواب الله العاجل والآجل ما يوجب للمؤمن أن يستحليها ، ويحمد الله على فرضه لها على العباد ؛ إذ لا غنى لهم عنها .
وأما الزكاة :
فإنها لا تجب على فقير ليس عنده نصاب زكوي ، وإنما تجب على الأغنياء تتميماً لدينهم وإسلامهم ، وتنمية لأموالهم وأخلاقهم ، ودفعاً للآفات عنهم وعن أموالهم ، وتطهيراً لهم من السيئات ، ومواساة لمحاويجهم ، وقياماً لمصالحهم الكلية ، وهي مع ذلك جزءٌ يسير جداً بالنسبة إلى ما أعطاهم الله من المال والرزق .
وأما الصيام : فإن المفروض شهر واحد من كل عام ، يجتمع فيه المسلمون كلهم ، فيتركون فيه شهواتهم الأصلية - من طعام وشراب ونكاح - في النهار , ويعوضهم الله على ذلك من فضله وإحسانه تتميم دينهم وإيمانهم ، وزيادة كمالهم ، وأجره العظيم ، وبره العميم ، وغير ذلك مما رتبه على الصيام من الخير الكثير ، ويكون سبباً لحصول التقوى التي ترجع إلى فعل الخيرات كلها ، وترك المنكرات .
وأما الحج :
فإن الله لم يفرضه إلا على المستطيع ، وفي العمر مرة واحدة ، وفيه من المنافع الكثيرة الدينية والدنيوية ما لا يمكن تعداده ، قال تعالى: ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) الحجّ/28, أي: دينية ودنيوية.
ثم بعد ذلك بقية شرائع الإسلام التي هي في غاية السهولة الراجعة لأداء حق الله وحق عباده . فهي في نفسها ميسرة ، قال تعالى : ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) البقرة/185، ومع ذلك إذا عرض للعبد عارض مرض أو سفر أو غيرهما ، رتب على ذلك من التخفيفات ، وسقوط بعض الواجبات ، أو صفاتها وهيئتها ما هو معروف .
ثم إذا نظر العبد إلى الأعمال الموظفة على العباد في اليوم والليلة المتنوعة من فرض ونفل ، وصلاة وصيام وصدقة وغيرها ، وأراد أن يقتدي فيها بأكمل الخلق وإمامهم محمد صلّى الله عليه وسلم ، رأى ذلك غير شاق عليه ، ولا مانع له عن مصالح دنياه ، بل يتمكن معه من أداء الحقوق كلها : حقّ الله ، وحقّ النفس ، وحقّ الأهل والأصحاب ، وحقّ كلّ من له حقّ على الإنسان برفق وسهولة .
وأما من شدد على نفسه فلم يكتف بما اكتفى به النبي صلّى الله عليه وسلم ، ولا بما علَّمه للأمة وأرشدهم إليه ، بل غلا وأوغل في العبادات : فإن الدين يغلبه ، وآخر أمره العجز والانقطاع ، ولهذا قال : ( ولن يَشادَّ الدينَ أحد إلا غلبه )
فمن قاوم هذا الدين بشدة وغلو ولم يقتصد : غلبه الدين ، واستحسر ، ورجع القهقرى .
ولهذا أمر صلّى الله عليه وسلم بالقصد ، وحثّ عليه فقال : ( والقصد القصد تبلغوا )
ثم وصى صلّى الله عليه وسلم بالتسديد والمقاربة، وتقوية النفوس بالبشارة بالخير، وعدم اليأس.
فالتسديد: أن يقول الإنسان القول السديد ، ويعمل العمل السديد ، ويسلك الطريق الرشيد ، وهو الإصابة في أقواله وأفعاله من كل وجه ، فإن لم يدرك السداد من كل وجه فليتق الله ما استطاع ، وليقارب الغرض ، فمن لم يدرك الصواب كله فليكتف بالمقاربة ، ومن عجز عن العمل كله فليعمل منه ما يستطيعه .
ويؤخذ من هذا أصل نافع دلّ عليه أيضاً قوله تعالى : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) التغابن/16, وقوله صلّى الله عليه وسلم : ( إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم ) والمسائل المبنية على هذا الأصل لا تنحصر . وفي حديث آخر : ( يسِّروا ، ولا تعسروا ، وبَشِّروا ، ولا تنفروا ) .
ثم ختم الحديث بوصية خفيفة على النفوس ، وهي في غاية النفع فقال : ( واستعينوا بالغدوة والروحة ، وشيء من الدُّلجة )
وهذه الأوقات الثلاثة كما أنها السبب الوحيد لقطع المسافات القريبة والبعيدة في الأسفار الحسِّية ، مع راحة المسافر ، وراحة راحلته ، ووصوله براحة وسهولة ، فهي السبب الوحيد لقطع السفر الأخروي ، وسلوك الصراط المستقيم ، والسير إلى الله سيراً جميلاً ، فمتى أخذ العامل نفسه ، وشغلها بالخير والأعمال الصالحة المناسبة لوقته - أوّل نهاره وآخر نهاره وشيئاً من ليله ، وخصوصاً آخر الليل - حصل له من الخير ومن الباقيات الصالحات أكمل حظ وأوفر نصيب ، ونال السعادة والفوز والفلاح وتم له النجاح في راحة وطمأنينة ، مع حصول مقاصده الدنيوية ، وأغراضه النفسية .
وهذا من أكبر الأدلة على رحمة الله بعباده بهذا الدين الذي هو مادة السعادة الأبدية ؛ إذ نصبه لعباده ، وأوضحه على ألسنة رسله ، وجعله ميسراً مسهلاً ، وأعان عليه من كل وجه ، ولطف بالعاملين ، وحفظهم من القواطع والعوائق .
فعلمت بهذا : أنه يؤخذ من هذا الحديث العظيم عدة قواعد :
القاعدة الأولى : التيسير الشامل للشريعة على وجه العموم .
القاعدة الثانية : المشقة تجلب التيسير وقت حصولها .
القاعدة الثالثة : إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم.
القاعدة الرابعة : تنشيط أهل الأعمال ، وتبشيرهم بالخير والثواب المرتب على الأعمال .
القاعدة الخامسة : الوصية الجامعة في كيفية السير والسلوك إلى الله ، التي تغني عن كل شيء ولا يغني عنها شيء .
فصلوات الله وسلامه على من أوتي جوامع الكلم ونوافعها " انتهى." بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار " (ص/77-80)والله أعلم .