ما حكم الحلف بالله كذبا ، للاصلاح بين الناس، لدفع ضرر، لانقاذ شخص ، او بين الازواج؟ الأصل في المؤمن الصدق ، وألاّ يتكلم إلا صواباً وحقّاً ؛ لقوله تعالى :"
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "
سورة التوبة:119 ؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم : "
عليكم بالصدق ، فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ، وإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا "
رواه البخاري ( 5743 ) ومسلم ( 2607 ) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه . ولإصلاح ذات البين أهمية كبيرة في الشرع ، وقد رتب على هذا الإصلاح أجوراً عظيمة ، كما ورد التحذير الشديد من إفساد ذات البين ، ولأهمية إصلاح ذات البين في المجتمع المسلم ولخطورة الشقاق والخلاف : فقد أباح الله عز وجل الكذب من أجل الإصلاح ومن أجل رفع الشقاق والنزاع الذي تكون نتيجته سلبية على دين الفرد والجماعة .
فعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "
ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟"
قالوا : بلى ، قال : "
صلاح ذات البين ، فإن فساد ذات البين هي الحالقة " .
رواه الترمذي ( 2509 ) وقال : " هذا حديث صحيح ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
هي الحالقة ، لا أقول تحلق الشعر ، ولكن تحلق الدّين " . انتهى .
ومن أكرمه الله ووفقه للإصلاح بين المسلمين فاحتاج إلى الكذب من أجل الإصلاح فلا حرج عليه في ذلك ، ولا يجوز وصفه بالكذب ، لأنه إنما كذب لأمر عظيم فيه من المصالح الشرعية ما جعل الكذب في هذا الموطن مباحاً ، كما في الصحيحين من حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
"
ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا ويقول خيراً "
رواه البخاري ( 2546 ) ومسلم ( 2605 ) . وعليه - بلا شك - فحلف اليمين كاذباً من أجل الإصلاح : فالظاهر جوازه .
قال الشيخ
عبد العزيز بن باز رحمه الله :
"
... فالمشروع للمؤمن أن يقلل من الأيمان ولو كان صادقا ؛ لأن الإكثار منها قد يوقعه في الكذب ، ومعلوم أن الكذب حرام ، وإذا كان مع اليمين صار أشد تحريماً ، لكن لو دعت الضرورة أو المصلحة الراجحة إلى الحلف الكاذب فلا حرج في ذلك ؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا ويقول خيراً ". قالت :" ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث : الإصلاح بين الناس ، والحرب ، وحديث الرجل امرأته ، وحديث المرأة زوجها " رواه مسلم في الصحيح:2065 .
فإذا قال في إصلاحٍ بين الناس : والله إن أصحابك يحبون الصلح ، ويحبون أن تتفق الكلمة ، ويريدون كذا وكذا ، ثم أتى الآخرين وقال لهم مثل ذلك ، ومقصده الخير والإصلاح : فلا بأس بذلك للحديث المذكور .
وهكذا لو رأى إنساناً يريد أن يقتل شخصاً ظلماً أو يظلمه في شيء آخر ، فقال له : والله إنه أخي ، حتى يخلصه من هذا الظالم إذا كان يريد قتله بغير حق أو ضربه بغير حق ، وهو يعلم أنه إذا قال : أخي تركه احتراما له : وجب عليه مثل هذا لمصلحة تخليص أخيه من الظلم .
والمقصود : أن الأصل في الأيمان الكاذبة المنع والتحريم ، إلا إذا ترتب عليها مصلحة كبرى أعظم من الكذب ، كما في الثلاث المذكورة في الحديث السابق " انتهى .
وما حكم الحلف كذبا ؟
فهذا مجمل ويفسر على حسب ما تحتمله العبارة . إذا قال :
والله لأفعلن كذا ، أو
والله لأعيننكم على كذا وكذا ، أو
والله إنه ما فعل كذا وما فعل كذا بطريق الإصلاح فهو
إذا حلف بقصد الإصلاح حلفاً لا يضر أحداً فلا حرج عليه في ذلك ،
والله إن فلاناً قال فيك كذا ، و
الله إن جماعة فلان أثنوا عليك ويشكرونك ويقولون : إنه صاحبنا ، ليصلح بينهم .
وأما من حلف فقال ":
والله لأزورنكم أو لأساعدنكم على مهمة إذا اصطلحتم وإذا تركتم هذا الشقاق،
"، فعليه أن يوفي لهم بهذا الشيء ، لأن الوعد له شأن ، ومن خصال المؤمن الوفاء بالوعد ، قال الله في حق إسماعيل : "
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً "
سورة مريم:54 ،
ولا ينبغي له أن يخل بالوعد لأن الإخلال بالوعد من صفات أهل النفاق .فالمنافق إذا وعد أخلف .
وعليه كفارة إذا أخل بذلك ، مع كونه اتصف بصفات أهل النفاق في الإخلال بالوعد ، عليه كفارة اليمين لقوله :"
والله لأزورنكم في يوم كذا أو والله لأساعدنكم"
ولم يفعل ، وعليه معرة إخلاف الوعد ، وقد يأثم عند من قال بوجوب الوفاء لظاهر الأدلة ، وقد لا يأثم ولكنه وقع في خصلة من خصال أهل النفاق ينبغي ألا يقع فيها .
وظاهر الأدلة الشرعية أن الوفاء بالوعد أمر واجب ، وأن الإخلال به أمر محرم ومن صفات أهل النفاق ، وهذا لا يليق بالمصلح أو الموجه أن يخلف الوعد ؛ لأن هذا يخل بالإصلاحات المستقبلية ، فلا ينبغي له أبداً أن يخلف الوعد ، بل ينبغي له أن يفي بالوعد ويحرص على ذلك .
واما الأيمان الأخرى:
ما كان منها كذاباً كذبا للإصلاح بين الناس عموما - ، و -
الحلف كذبا بما لا يترتب عليه مضرة أحد او هضم حق او اكل مال او اضاعة حقوق - ، -
الحلف كذبا لدفع ضرر عن النفس او عن مسلم - ، - و
الحلف كذبا لإنقاذ نفس مسلمة نفسه او عرضه - ، -
الحلف كذبا للإصلاح بين الزوجين - ، -
الحلف كذبا لدرء مفسدة أعظم من الكذب - :
فلا حرج في ذلك ، ويجوز الكذب والحلف كذبا ؛ لظاهر الحديث الصحيح الذي ذكرناه سابقا من حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قالت : سَمِعَتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : "
لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا" ، قالت :
فلم أسمعه يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاثة :
في الإصلاح بين الناس ، وفي الحرب ، وفي حديث الرجل امرأته والمرأة زوجها" .
قال الإمام
النووي:"
إن الكلام وسيلة إلى المقاصد فكل مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه، وإن لم يمكن تحصيله إلا بالكذب جاز الكذب..." إلى آخر كلامه.
انظر رياض الصالحين: باب 253 ص: 459. و
لانقاذ مسلم جاز الكذب والحلف كذبا: فقد روى
الشوكاني ، و
الرباعي في
فتح الغفار :4/2016، عن
سويد بن حنظلة ، قال :
خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومعنا وائل بن حجر ، فأخذه عدو له ، فتحرج القوم أن يحلفوا ، فحلفت أنه أخي ، فخلى سبيله ، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فذكرت ذلك له فقال : (
أنت أبرُّهم وأصدقُهم ، المسلم أخو المسلم )
الراوي : سويد بن حنظلة | المحدث : الشوكاني | المصدر : نيل الأوطار: 9/110 | خلاصة حكم المحدث : رجاله ثقات وله طرق ولو اغتاب شخص شخصا وتاب ، وطلب منه ان يحلف عن ما اغتاب - نفيا - :
قال
ابن تيمية رحمه الله
فيمن اغتاب إنسانا ثم تاب وأحسن :
"
وعلى الصحيح من الروايتين لا يجب له الاعتراف لو سأله ، فيعرّض ولو مع استحلافه ؛ لأنه مظلوم ، لصحة توبته ، وفي تجويز التصريح بالكذب المباح ههنا نظر . ومع عدم توبةٍ وإحسانٍ تعريضُه كذب ، ويمينه غموس ، واختيار أصحابنا : لا يُعلمه ؛ بل يدعو له في مقابلة مظلمته "
انتهى من "الاختيارات الفقهية" (5/507) مطبوع مع الفتاوى الكبرى ، ونقله ابن مفلح في الفروع (7/97). وينظر تفصيل مسألة التأويل في الحلف في "الموسوعة الفقهية" (7/306). والكذب في الحرب: قال
النووي رحمه الله في شرح مسلم : " قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
الْحَرْب خُدْعَة " ... وَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيث جَوَاز الْكَذِب فِي ثَلَاثَة أَشْيَاء : أَحَدهَا فِي الْحَرْب . قَالَ
الطَّبَرِيُّ :
إِنَّمَا يَجُوز مِنْ الْكَذِب فِي الْحَرْب الْمَعَارِيض دُون حَقِيقَة الْكَذِب ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلّ ، هَذَا كَلَامه , وَالظَّاهِر إِبَاحَة حَقِيقَة نَفْس الْكَذِب لَكِنْ الِاقْتِصَار عَلَى التَّعْرِيض أَفْضَل . وَاَللَّه أَعْلَم " انتهى .
وقال
السفاريني رحمه الله : " ف
هذا ما ورد فيه النص ، ويقاس عليه ما في معناه ، ككذبه لستر مال غيره عن ظالم ، وإنكاره المعصية للستر عليه ، أو على غيره ما لم يجاهر الغير بها ، بل يلزمه الستر على نفسه وإلا كان مجاهرا ، اللهم إلا أن يريد إقامة الحد على نفسه كقصة ماعز ، ومع ذلك فالستر أولى ويتوب بينه وبين الله تعالى .
ثم قال
السفاريني : "
والحاصل أن المعتمد في المذهب أن الكذب يجوز حيث كان لمصلحة راجحة كما قدمناه عن الإمام ابن الجوزي ، وإن كان لا يتوصل إلى مقصود واجب إلا به وجب . وحيث جاز فالأولى استعمال المعاريض "
انتهى من "غذاء الألباب" (1/141). فالكذب والحلف كذبا :
يباح بشرط ان لا يضر الناس ، ولا يضيع الحقوق بينهم ، ويصلح بين العامة والخاصة ، ويدفع الضر عن مسلم ويحفظ عرضه ونفسه.