الخنـدق
حفرة طويلة ممتدة حفرها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام في السنة الخامسة للهجرة، عندما جمعت قريش عدداً من القبائل، وسارت بهم إلى المدينة لتستأصل المسلمين، وكانت أطراف المدينة الجنوبية الشرقية وجزء من الغربية مغطاة ببقايا بركانية، وبمزارع النخل الكثيفة تشكل حماية طبيعية لما وراءها، وكانت أجزاء من الجهة الغربية والشمالية مكشوفة يسهل العبور منها إلى قلب المدينة، فأشار سلمان الفارسي رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر خندق على امتداد المنطقة المكشوفة يحول دون مرور الغزاة، وخط رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق ووزع الصحابة كل عشرة يحفرون أربعين ذراعاً، وشاركهم في العمل فكان يحفر بيديه الشريفتين. واستمر العمل في الخندق ستة أيام ونصبت خيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على السفح الشمالي الغربي لسلع، وأقيم في موقعها فيما بعد مسجد الفتح. ووقعت في أيام الحفر عدة معجزات، منها: الكدية التي اشتدت عليهم في الخندق فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء من ماء فتفل فيه ثم دعا الله بما شاء، ورش الماء على الكدية فانهالت كالكثيب ماترد فأساً ولا مسحاً. ومنها: الصخرة التي اعترضت سلمان وأصحابه فضربها النبي صلى الله عليه وسلم بالمعول ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتي المدينة، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم ضربها الثانية، وبرق منها برق وكبر والثالثة كذلك فكسرها. فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئاً ما رأيت مثله قط! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم ضربت ضربتي الأولى فبرق الذي رأيتم أضاءت لي قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليهم، والثانية أضاءت لي قصور الروم، والثالثة قصور صنعاء فأبشروا. يقول سلمان: فكل هذا قد رأيته. ومنها أيضاً: تلك الحفنة من التمر التي أخذها النبي صلى الله عليه وسلم من عمرة بنت رواحة أخت عبدالله بن رواحة ودعا بثوب ووضع عليه التمر ودحابه فتبدد فوق الثوب، ونادى أهل الخندق جميعهم للغداء وجعلوا يأكلون جميعاً حتى قاموا عنه وإنه ليسقط من أطراف الثوب. ومنها: قصة شاة جابر بن عبدالله التي صنعها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع الصحابة وأكل الجميع ومازالت كما هي ببركته صلى الله عليه وسلم.
وقد سعى بعض الباحثين لتحديد موقع الخندق بدقة فلم يصلوا إلى نتيجة مرضية، ووضع الأستاذ عبدالقدوس الأنصاري خارطة تقريبية للموقع بناء على ما جاء في المصادر التاريخية. ووفق هذه الخريطة يبدأ الخندق من طرف حرة الوبرة (الحرة الغربية) عند مرور وادي بطحان بقربها، ويمتد إلى غربي سلع، ثم ينعطف في شبه قوس فيمر قرب جبل ذباب، ويتجه إلى أجمة الشيخين وينتهي عند طرف حرة واقم (الحرة الشرقية)، وبذلك يبلغ طول الخندق 12كم تقريباً. ويعتقد أن عرضه لايقل عن أربعة أمتار لأن قليلاً من خيل المشركين استطاعت أن تعبره فتصدى لها المسلمون. ووقعت أجزاء من الخندق بعد الغزوة وانطمر معظمها في العهد الراشدي، وأعيد حفره سنة 63 للهجرة عندما ثار أهل المدينة على يزيد بن معاوية، وتحصنوا خلفه وأرسل يزيد جيشاً استطاعت مجموعة منه أن تقتحمه من جهة حرة واقم (الحرة الشرقية) وتهاجم المدافعين من خلفهم، في الوقت الذي استطاعت فيه مجموعة أخرى أن تردم جزءاً من الخندق وتعبر إلى المدافعين. بعد ذلك انطمر الخندق مدة تقارب ثمانين عاماً، ثم حفر مرة ثالثة عندما ثار محمد بن عبدالله بن الحسين (النفس الزكية) على خلافة أبي جعفر المنصور عام 145هـ. ولكن الجيش العباسي اقتحمه وأنهى الثورة ولم يحفر الخندق بعدها. ويذكر السمهودي أن بقايا متفرقة منه كانت موجودة في عصره (القرن التاسع) ولكنها انطمرت بمرور الزمن ولم يبق منها الآن شيء على الإطلاق.